قبل أيام قليلة، حلّت الذكرى الـ36 لاستشهاد القيادي الفلسطيني الكبير خليل الوزير (أبو جهاد)، أحد رموز العمل الفلسطيني المقاوم في الحقبة الممتدة من تاريخ ولادة حركة "فتح" في نهاية الخمسينيات الماضية مروراً بالعام 1964 تاريخ ولادة منظمة التحرير الفلسطينية وصولاً إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987، وظل كذلك حتى تاريخ استشهاده في 16 نيسان/أبريل 1988 في تونس عن 52 عاماً، على يد فرقة كوماندوس إسرائيلية تسلّلت إلى مقر اقامته في حي بوسعيدي بالعاصمة التونسية. في أوّل حديث صحافي شامل، قال القيادي الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في مقابلة أجراها معه الزميل ميشال نوفل (“النهار العربى والدولي”) إن القضية الفلسطينية “استعادت مكانتها على هذا الكوكب بعدما كان رهان المستعمرين والصهاينة أن تذوب شخصية شعبنا وأن تموت قضيّته عبر الزمن، وها هي اليوم محور الصراع على جميع المستويات في العالم أجمع وهي تكسب كلّ يوم أصدقاء جُدد وتُساهم كلّ يوم في تطوير النضال العالمي ضدّ الإمبريالية والعنصرية”.
الزميل ميشال نوفل، وبينما كان يُعيد ترتيب أوراقه وملفاته ودفاتره، عثر على مسودة هذه المقابلة التي نشرتها الزميلة “النهار” في ملحقها العربي والدولي بتاريخ 23 كانون الأول/ديسمبر 1978 لمناسبة العيد الـ14 لانطلاقة الثورة الفلسطينية، ونُعيد أبرز ما تضمنته مع المقدمة التي صاغها الزميل ميشال نوفل.
“أبو جهاد” خليل الوزير، الإسم الذي يتردّد كثيراً كلما نجحت عملية فدائية كبيرة في الأرض المحتلة، هو من أوائل مؤسّسي حركة “فتح” وعضو اللجنة المركزية فيها وعضو القيادة العامة لقوات “العاصفة”. في أوّل مقابلة طويلة من نوعها خصّ بها “النهار العربي والدولي”، تحدّث “الرجُل الصامت” في مناسبة الذكرى الـ14 لانطلاقة الكفاح المسلّح الفلسطيني عن “العمق الحضاري” للقضية الأولى في العالم. رفض “خرافة التوطين” في لبنان مُعيداً إلى الأذهان أن حرب السنتين (1975 ـ 1976) “فُرضت علينا وكنّا في موقع الدفاع”.
-نوفل: تستقبل الثورة الفلسطينية عامها الخامس عشر فأين أصبحت القضية الفلسطينية بعد أربعة عشر عاماً من النضال؟
-أبو جهاد: في العام 1965 عندما انطلقت “فتح” بالكفاح المسلح الفلسطيني كان عدد المقاتلين لا يتجاوز العشرات، وكانت البداية على أرض مليئة بالعقبات والعراقيل والتحدّيات ولكنها كانت تُجسّد إرادة هذا الشعب المعذّب وإصراره على الاستمرار في النضال من أجل تحرير وطنه المغتصب، وهي لا شك أيضاً تجسيد لارداة أمّتنا العربية وتصميمها على رفض العدوان الصهيوني الظالم ومواجهته، وإذا بشعبنا وأمّتنا تحيط هذه الانطلاقة بتجاوبها، وتمضي قافلة الثورة على درب النضال المليء بالأشواك والجمر فتخوض المعارك تلوَ المعارك ضدّ العدو الصهيوني وعدوانه المتواصل على شعبنا ومخيّماته أو قواعد ومراكز الثورة مستخدماً كل وسائله وأسلحته وطيرانه ودروعه أو ضد محاولات التصفية التي كنّا نخوض معاركها من منطلق الدفاع عن أنفسنا وحماية ثورتنا في أقطار عربية مجاورة وإذا بمقاتلي الثورة الفلسطينية اليوم منتشرون في أرجاء فلسطيننا وحولها، وحيثما وجد شعبنا العربي الفلسطيني. لقد تحوّل شعبنا من صورة اللاجئ الذي يحتاج إلى العطف والإحسان إلى صورة الشعب المكافح الذي يحظى بالاحترام والاعتزاز في شتى أنحاء المعمورة.
لقد بنى شعبنا منظماته السياسيّة والعسكريّة التي اتحدت في منظمة التحرير الفلسطينية إطاراً سياسياً عامًّا للشعب الفلسطيني والتي أقرّ بها العالم كممثّل شرعي ووحيد له. وبعدما كانت وسائل الإعلام العالمية تُقدّم الفلسطيني في صورة اللاجئ والخيمة، أصبحت تُقدّمه اليوم بالكوفية والبندقية حتى أضحت شعاراً لكل المناضلين في العالم، ومنذ أعوام قليلة بدأ العالم يرى ويسأل ويبحث عن العمق الحضاري الذي يُحرّك هذا النضال العادل ويُزوّد الشباب بالقدوة الفائقة على التضحية، أما القضية، فقد استعادت مكانتها وأصبحت واحدة من القضايا الأُولى في العالم، بل هي القضية الأُولى التي يُجمع كلّ الفرقاء على أولويّتها وأصبحت منظمة التحرير الفلسطينيّة، وهي العضو الأصيل في الجامعة العربية، عضواً في أُسرة الدول الإسلامية ودول عدم لانحياز ومنظمة الوحدة الأفريقية، وعضواً مراقباً في هيئة الأمم المتحدة وعضواً كامل العضوية في العديد من منظمات الأمم المتحدة، وأصبحت لها علاقات أخوية متبادلة مع كل القوى التقدّمية والوطنية والثورية والإنسانية في العالم وعلاقات ديبلوماسية ثنائيّة مع أكثر من دولة في العالم. باختصار لقد استعادت قضية فلسطين والشعب الفلسطيني مكانتها على هذا الكوكب بعدما كان رهان المستعمرين والصهاينة أن تذوب شخصية شعبنا وأن تموت قضيّته عبر الزمن، وإنها اليوم محور الصراع على جميع المستويات في العالم أجمع وهي تكسب كلّ يوم أصدقاء جُدد وتُساهم كلّ يوم في تطوير النضال العالمي ضدّ الإمبريالية والعنصرية.
إن موقع وطننا الفلسطيني في موضع القلب من وطننا العربي الكبير؛ موقعٌ مهمٌّ استراتيجيًّا، فهو موقع اتصال القارات الثلاث وهو في قلب منطقة النفط العربية الغنيّة، على مدخل قناة السويس والجناح الشرقي والجنوبي لأوروبا والطرف الحصين للبحر المتوسط. لكلّ ذلك وقع اختيار المستعمرين على فلسطين لكي يقيموا عليها ما سُمّي في أحد مؤتمرات خبراء الاستعمار العالمي العام 1907 “ضرورة زرع كائن بشري غريب في أرض فلسطين تكون لديه القدرة على تقطيع أوصال هذه المنطقة العربية ذات الخيرات والمواد الأولية والطاقة والموقع والتراث التاريخي، والتي إذا توحّدت ستشكّل تهديداً مباشراً لأوروبا ولمصالح الدول الاستعمارية آنذاك”. وفي ضوء ذلك، شنّت القوى الاستعمارية غزوتها الصهيونية على بلادنا ووطننا العربي وكان من الطبيعي أن ينعكس الموقع الإستراتيجي والأهمية القوميّة والقرب من مواقع النفط وغير ذلك من عوامل على قضيتنا الفلسطينية وما أحاط بها من تعقيدات عبر تراكم القوى المعادية والتي تستهدف كل خيرات أمّتنا، كذلك استمر هذا بتأثيره على موقع الثورة الفلسطينية في الصراعات والتوازنات الدولية. ومن المؤكد أنه لولا الثورة الفلسطينية لكانت هذه العوامل كلّها أدوات مساومة أو مصادمة في الصراع الدولي، لكن الثورة الفلسطينية في مسيرة نضالها وباعتبارها العامل الرئيسي المدرك لكلّ النشاطات المحيطة في المنطقة حدّدت منذ انطلاقتها أنها تناضل من أجل التحرّر والوحدة وهذا معناه الصدام المباشر مع الكيان الصهيوني والإمبرياليّة الأميركية وأية قوّة تدعم الكيان الصهيوني.
ولم تعد قضية فلسطين مجرّد عامل في الصراع الدولي بل أصبحت عاملاً أساسيًّا يشكّل قوّة مستقلة لها موقف محدّد في معسكر الشعوب والقوى المناهضة للإمبريالية والعنصرية وتقف إلى جانبها أوسع جبهة عالمية من القوى والدول الصديقة والمكافحة أو الملتزمة بنصرة المناضلين من أجل الحرية ومقارعة الاحتلال والاستعمار. ويكفي تذكّر مدى أهمية موقع فلسطين وثورتها ومدى أهمية الكيان الصهيوني بالنسبة إلى الإمبريالية العالمية، لندرك أهمية موقع الثورة الفلسطينية على خريطة المساومات والصراعات والصدامات الدولية وستبقى نقطة التوتر الدولية تتفاعل وتتفجّر ما دام شعب فلسطين محروماً من تحقيق أهدافه والحياة بسلام في أرض وطنه، أرض السلام.
دور منظمة التحرير
-توافقت إنطلاقة الثورة الفلسطينية مع بداية عمل منظمة التحرير الفلسطينية ثمّ أصبحت المنظمة بإجماع العالم تقريباً هي الإطار السياسي لشعب فلسطين، كيف ترون دور منظمة التحرير في التعبير عن الشعب الفلسطيني ووحدته الوطنية؟ -إننا في حركة “فتح” ننظر إلى منظمة التحرير الفلسطينية على أنها الوعاء للوحدة الوطنية الفلسطينية، وهي توازي في الثورات الأخرى ما يُعرف بالجبهة المتحدة. أي أن المنظمة هي جبهتنا المتحدة التي تضم كل قوى شعبنا الوطنية وكل منظمات المقاومة، بل ويمكن أن تضيف أن لمنظمة التحرير دوراً أكبر من دور الجبهة المتحدة. ففي العام 1948 ومع بداية نكبة شعبنا وتشرّده فَقَدَ شعبنا العربي الفلسطيني إطاره السياسي والاجتماعي والتنظيمي، لقد كانت المؤامرة على شعبنا بامتدادها تقتضي حرمانه من المحافظة على شخصيته الوطنية ومن ثمّ حرماننا من حرّية العمل لإعادة تنظيم شعبنا أو حقّنا في خلق المؤسسات أو الروابط أو النقابات أو أي شكل من أشكال التجمع التنظيمي نقابيًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا وحتى رياضيًّا. لقد كان هذا في معظم الأقطار العربية التي لجأ إليها شعبنا بعد نكبته أمراً محظوراً ومن كان يحاول يُلقى به في سجون الأنظمة ليذوق هول العذاب متهّماً بالتخريب والتمرّد وتهديد الأمن.
وعندما كانت منظمة التحرير في مواقعها وظروفها الأولى كانت “فتح” من ركائزها الأولى وتعتبر نفسها ركن حماية لمسيرتها. وناضلت “فتح” عبر المسيرة الفلسطينية ليصبح لمنظمة التحرير الفلسطينية محتوى نضالياً يُجسّد إرادة شعبنا الكفاحيّة، ولتقود نضاله السياسي والثوري. وأصبحت المنظمة عبر سنوات النضال الفلسطيني الإطار السياسي والاجتماعي لكلّ شعبنا العربي والفلسطيني سواء منه الذين يعيشون في الشتات وديار الغربة أو أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي داخل كلّ وطننا المغتصب. إن هذا يفرض على منظمة التحرير الفلسطينية مهمات وواجبات ربّما كانت أكبر ممّا احتوته خبرات الجبهات المتحدة في البلدان الأخرى. ومن المنطقي أن تكون منظمة التحرير ليست فقط إطاراً معنويًّا سياسيًّا للشعب الفلسطيني وإنما أيضاً إطار وحدته الوطنية.
إننا في حركة “فتح” نعمل بكل جهدنا لتدعيم منظمة التحرير وتطوير وحدتها، يكفي أننا لا نصدر أيّة بلاغات عسكرية عن العمليات التي تقوم بها قوات “العاصفة”، جناح حركتنا العسكري، وإنما ننسب هذه العمليات إلى قوات الثورة الفلسطينية ككل من دون تمييز. وليس في هذا الموقف أي افتعال، وإنما هي قناعتنا بأن ما ننجزه هو لفلسطين كلّها، لشعبنا كلّه، لأمّتنا العربية كلّها وفي الوقت الذي يُجمع العالم كلّه الأصدقاء والأعداء على اعتبار منظمة التحرير الطرف الفلسطيني في كل النشاطات العالمية، وفي الوقت الذي يُجمع الأصدقاء وحتى المحايدون على اعتبار المنظمة الممثّل الشرعي الوحيد للشعب العربي الفلسطيني، وفي الوقت الذي يناضل شعبنا في الأرض المحتلة وخارجها مُردّداً شعارات منظمة التحرير ومُعبّراً عن التفافه حولها بكل وسائل الدعم والتأييد يكون حرِيًّا بقادة المنظمات وبنا جميعاً أن نعمل واجبنا جميعاً بأن نُطوّر نظام وحدته لتتعزّز قوّتها وقدرتها وتتخطى كل الثغرات التي يخلقها أي تردّد في هذا المجال.
التعامل مع الأنظمة
-يأخذ الكثيرون على حركة فتح أن علاقاتها مع الأنظمة العربيّة لا مع الجماهير العربية، ويؤخذ عليها أنها لا تميّز بين الأنظمة العربية نفسها. ما هو تعليقكم على ذلك؟ -قضيّة فلسطين هي قضيّة كلّ عربي أينما كان موقعه وجماهير أمتنا العربية في كلّ مكان تتفاعل في كلّ أقطارها مع القضية وتتابع تطوّراتها، كما أن “فتح” عملت على إقامة اتصالاتها مع أوسع الإطارات الرسمية والشعبية؛ وإن كانت “فتح” تقيم علاقات مع الأنظمة العربية فذلك يرجع إلى سبب واضح وهو دعم القضية الفلسطينية وخدمة الثورة الفلسطينية وتدعيم قدراتها، وتجنيد ما يمكن من طاقات عربية ودولية لنصرتها، وما من علاقة تقيمها “فتح” مع أي نظام عربي إلّا ولها هدف وحيد أوحد هو كسب التأييد للقضية وحماية الثورة الفلسطينية وتقوية ساعدها وتطوير ذلك دائماً إلى الأحسن ونحن لا نقيم علاقة مطلقاً مع أي نظام ضدّ جماهيره، أو لأهداف تخرج عن أهداف الثورة الفلسطينية.
من جهة أخرى، إن العلاقة مع الأنظمة ليست بديلاً عن العلاقة مع الجماهير العربية أو القوى المناضلة القومية أو الثورية العربية، بل إن تلك العلاقة تشهد عليها عمليّة تعزيز العلاقات النضالية الفعليّة مع أبناء الشعب العربي في كل أقطاره ونظراً إلى موقع هذه القضية في نفوس أبناء شعبنا العربي في كلّ مكان كان همّنا منذ انطلاقتنا الثوريّة أن تربط كل مواطن عربي بنضال هذه القضيّة والثورة، وانطلقنا في أقطار كثيرة نُشكّل لجاناً خاصة لمناصرة قضيّتنا ونضالنا. وبدأت هذه اللجان تعطي ثمارها دعماً ماديًّا وبشريًّا لقافلة النضال تمدّ شرايينها بدماء الواجب القومي إلا أن كثيراً من الأنظمة جمّدت عمل هذه اللجان، لتتحوّل إلى أشكال أخرى مفرغة من محتواها الأساسي ومن ثمّ اتخذت أشكال علاقتنا تلك طرقاً أخرى وبالتأكيد ليس ثمّة حركة ثورية سواء في البلاد العربية أو في المنطقة كلّها والخارج إلّا ولحركة “فتح” علاقتها الوثيقة بها وبالأهداف النضاليّة التي تكافح من أجلها.
-وماذا عن التمييز بين الأنظمة؟
-تبقى مسألة التمييز في ما بين الأنظمة. كيف يمكن ألّا نُميّز ونحن الذين لدينا معيار ملموس للتمييز، نعرف مَنْ يكيد لنا ومَنْ يتآمر علينا، أو من يعطينا من طرف اللسان حلاوة ويراوغ كالثعلب ونعرف مَنْ يدعم نضالنا فعلاً بإخلاص ومدى هذا الدعم وتقديره. إن معيارنا للحكم على هذه المسائل لا يخطىء فالموقف من الثورة الفلسطينية وقضية شعبنا ومن حركتنا، هو معيارنا الذي نُميّز فيه بين الأنظمة.. ومع ذلك، نحن لا نطرح هذا التمييز في معظم الأحيان علانيّةً وذلك لسبب بسيط هو أننا لا نريد أن نمدح أو نُطري أحداً أو نروّج لأحد فما يُقدّم دائماً لساحة فلسطين ونضالها واجب وإلتزام قوميَّين ما زلنا جميعاً مقصّرين على طريقه وما دمنا لم نصل إلى محطة النصر والتحرير. إنّما نمضي في ممارسة القتال ضدّ العدوّ الصهيوني وهذا هو السلاح الذي تتسلّح به جماهير كلّ قطر لتقييم مواقف أنظمتها وتنظيماتها السياسية.
لقد جاء في منطلقاتنا، ونحن أمناء على ذلك أننا نترك لجماهير كلّ قطر تقديم مواقف حكامها وقواها السياسيّة، أي إننا لسنا بديلاً عن الجماهير العربية، ولا أوصياء عليها. اتفاقات كامب ديفيد -يكاد يُجمع العالم على أن اتفاقات كامب ديفيد هي محاولة للقفز عن الحقيقة الفلسطينية، هل ترون أن هذه المحاولة ستنجح، وما هي طريق إفشالها؟ -لقد قال شعبنا العربي الفلسطيني كلمته في الداخل والخارج حول كامب ديفيد، وقالت معه جماهير أمتنا في الوطن العربي أن هذه الاتفاقات جريمة في حق قضية فلسطين المقدسة وتنكّر لحقوق الشعب الفلسطيني ولكرامة أمتنا كأنّما نسي الذين يريدون تنفيذ اتفاقيات كامب ديفيد في أمتنا ما كان من جرائم الصهيونية وبلائها وعدوانها على شعبنا وأطراف وطننا العربي! كأنّما يقفز الذين ساروا في طريق هذا الانحراف الوطني على تضحيات عشرات الألاف من شهداء أمتنا.
إن جريمة اتفافات كامب ديفيد تشكّل طعنة حادّة لنضال الشعب المصري البطل وخيانة عارية لمبادىء الأمة العربية وتاريخها تتجسّد في هذا الابتذال في الركوع والاستسلام لإرادة العدو الصهيوني والاعتراف به والانفتاح عليه والتعامل معه في وقت يحتل فيه أراضٍ عربية وفلسطينية فضلاً عن اغتصابه لفلسطين وتشريده لشعب فلسطين، ولقد جاء موقف معظم دول العالم وشعوبه، إلى جانبنا إمّا معترضاً أو متحفظاً على هذه الاتفاقات، لأنه رأى فيها تنكّراً لحقوق شعبنا في أرضه وتجاهلاً لقرارات الأمم المتحدة في ما يتعلق بحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه، وحق تقرير مصيره في حرية على أرضه، وتسليماً للأرض والقدس وأصحاب الحق الشرعيين للمعتدين. يتم هذا في وقت أصبحت القضية الفلسطينية تستقطب أوسع التأييد العالمي في كل الميادين والساحات الدولية في صورة ترسّخ الحقيقة البارزة: لم يعد هناك مجال لأيّة قوّة أن تقفز عن الحقيقة الفلسطينية لأنها باتت القاعدة الأساسية لكلّ تحرك في مجرى السياسة العالمية، ومن المؤكد أن هذه المؤامرة لن تنجح، وستسقط كما سقط غيرها من المحاولات الفاشلة وستجرف معها عند سقوطها كل من تعلق بها. إن الوسيلة الوحيدة لإفشال اتفاقات كامب ديفيد هي مواصلة النضال وتصعيده ضدّ العدو الصهيوني وتعبئة وتوحيد كل القوى العربية في هذا الاتجاه، ولعلّ هذا ما تمهّد له لقاءات مؤتمر القمة الثالث للجبهة القومية للصمود والتصدي في دمشق، ومؤتمر قمة بغداد والميثاق السوري العراقي إلى جانب ما يقوم به شعبنا الفلسطيني في تصدّيه البطولي لآثار ونتائج كامب ديفيد عسكريًّا وسياسيًّا، وبصراحة لم تكن حركة جماهيرنا العربية في الوطن العربي على مستوى خطورة الحدث فأين بركان الغضبة الشعبية التي كان عليها أن تتفجر في كلّ مكان من وطننا العربي؟ أين التحرّك الشعبي الموازي لفظاعة هذه الجريمة؟ إن الكثير لا يزال مطلوباً من أمتنا وجماهيرنا لقطع الطريق على الاستمرار في هذه المؤامرة. المعارك الخارجية في السنوات الأخيرة خاضت الثورة الفلسطينية معارك عدّة خارج فلسطين أبرزها اشتراكها في الحرب اللبنانية.
هل تأثّر النضال الفلسطيني العام بذلك سلباً أم إيجاباً؟ وهل كانت هناك وسيلة لتجنّب هذه المعارك؟ -في “حرب السنتين” (1975 – 1976) على الساحة اللبنانية فُرضت هذه الحرب علينا وكنّا في موقع الدفاع عن ثورتنا وأبناء شعبنا في المخيمات، كنّا دائماً حريصين في كل وقت على إيجاد أي مخرج يُجنّبنا الاستمرار في هذه الحرب الكريهة لأننا كنا على يقين أنها إنهاك واستنزاف لِقوانا في ميدان جانبي ونحن أحوج ما نكون إليها لمواجهة عدوّنا الصهيوني لا سواه. من هذا المنطلق كنّا دائماً نسعى الى وقف إطلاق النار واستجبنا لأكثر من 54 اتفاقاً لوقف إطلاق النار في سبيل تهيئة الأجواء للخروج من هذه المحنة.
وحرِصنا على إبقاء سُبل الحوار مفتوحة مع كلّ من أبدى مجرّد رهبة في وقف القتال ووضع حدٍّ لهذا الاقتتال من دون التنازل عن شروط مبدئية هي عروبة لبنان ووحدته وعلاقة التحالف مع القوى الوطنية والتقدمية اللبنانية وإدانة التعامل مع العدو الصهيوني مع المحافظة على حق هذه الثورة في نضالها من أجل تحرير وطنها. وإذا أردنا أن نُقيّم أثر المعارك والحروب التي اضطررنا إلى خوضها خارج فلسطين، نجد أننا خسرنا جهداً كبيراً وإمكانات كثيرة كانت ساحة فلسطين أحوج ما تكون إليها، وبرغم التضحيات الكبيرة التي قدّمناها فإننا نعتبر أن نتائج المعارك كانت لمصلحة الثورة والدفاع عنها، بل لمصلحة النضال القومي العربي كله.
لقد ازدادت قوى الثورة خبرة وقوّة ووحدة وقدرة، كما وفّرت خبرة “حرب السنتين” تجربة رائدة في التلاحم بين قوى الثورة الفلسطينية وقوى الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية إذ وصلت درجة التنسيق بين هذه القوى إلى تشكيل قيادة مشتركة سياسية وعسكرية، وهو شكل من أرقى أشكال التحالف يجب أن نحرص عليه ونطوّره ونعمّقه ليصبح إنمودجاً يحتذى في التحام القوى النضالية الشعبية في مواجهة العدوان والدفاع عن الثورة. لقد وضعت نتائج هذه الحرب لبنان على طريق العروبة بشكل قطع الطريق على أولئك الذين أرادوا عزل لبنان عن عروبته وجعله يرضح للمخطط الصهيوني، وهذا أيضاً أحد الانتصارات الكبيرة لجماهير لبنان العربية وللقضيّة الفلسطينيّة وللنضال العربي بأسره.
-هل يمكن تجنّب تلك المعارك الجانبيّة في المستقبل؟
-الأمر لا يتوقف على نيّاتنا فقط، فنحن لم نرغب ولا نرغب فيها ولا نسعى إليها ولا نريدها ولكن مؤامرات المستعمرين والصهاينة تفرض علينا هذه المعارك بل هي جزء من مخططاتهم المستمرة لتعطيل قدرة انطلاقنا في طريق الكفاح من أجل تحرير وطننا وأمام ذلك لا يسعنا إلّا تقصير أمد هذه الدرب والإصرار على مواصلة النضال المسلّح ضدّ العدو الصهيوني في الوقت نفسه.
الفلسطينيون ولبنان
-الوجود الفلسطيني في لبنان أصبح عاملاً ثابتاً في المعادلة اللبنانية. ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الثورة الفلسطينية في سبيل عودة الاستقرار إلى لبنان؟
-أعلنّا مراراً أن لبنان بالنسبة إلينا ممرٌّ لا مستقرٌّ وأننا لا نتدخل في شؤونه المحلية كما أننا أعلنّا مؤخراً على لسان الأخ ياسر عرفات (أبو عمّار) وفي مذكّرات وبيانات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وتصريحات الإخوة القادة أننا جميعاً نرفض ما يقال عن توطين الفلسطينيين في لبنان لأننا أولاً نرفض إلّا أن نعود إلى وطننا فلسطين. والذين طرحوا خرافة التوطين يهدفون فقط من طرحها للاتّهام ثمّ صدّقوا أنفسهم ليجعلوها حجّة عدوانية جديدة علينا، وليدرك هؤلاء وأولئك ممّن يريدون زرع المخاوف حول نوايانا أن تاريخ شعبنا العربي الفلسطيني في كل مناطق تشرّده مليء بالكفاح طيلة الأعوام الثلاثين الماضية ضدّ كل مشاريع التوطين التي نعتبرها جزءاً من المؤامرة على شعبنا، وهي جانب من محاولات تصفية قضيتنا وكان دائماً إصرار اللاجىء الفلسطيني على بقائه في خيمته ومخيّمه وعدم الاستجابة لمحاولات توطينه رمزاً لتصميمه على الكفاح من أجل تحرير وطنه والعودة إلى القدس ويافا وحيفا والناصرة وغزّة ونابلس والخليل.
هذه المدن وغيرها من أرض وطنه لا يفكّر ولن يرضى بحبه لها وارتباطه بها بديلاً.. وفي هذا الظرف المؤقت الذي نعيشه على الساحة اللبنانية نحن دائماً ملتزمون بتطبيق كل الاتفاقات المعقودة بيننا وبين السلطة اللبنانية ونحن كما أعلنا دائماً على استعداد لبذل كل ما يمكن أن تطلبه منا القوى القومية والوطنية لتسهيل الوصول إلى أي اتفاق يضمن وحدة لبنان وعروبته ونحن دائماً نبذل كل جهد ممكن للمساعدة في العودة بلبنان إلى وحدته وتعايش أبنائه وتكريس عروبته وتعزيز مكانته العربية والدولية وعلى استعداد مستمر لدعم كل اتّجاه في هذا المجال بالقدر الذي لا يمسّ حقّنا في الإعداد لمواجهة عدوّنا الصهيوني عدوّ لبنان وأمتنا العربية وبالتعاون المطلق مع أولئك الذين وقفوا معنا دائماً يدافعون عن الثورة ويدعمونها من مناضلي القوى الوطنية العربية اللبنانية.
(المصدر: أرشيف الزميل ميشال نوفل).